بسم الله الرحمن الرحيم
[size=24]
مقدمة
لم تستأثر كلمة قط بمثل ما استأثرت به كلمة الديمقراطية من الاهتمام والعناية حيث وجهت إليها الأنظار وسلطت عليها الأضواء، بل جعلت النور الذي يبهر الأبصار والفكر الذي يسحر الألباب وأصبحت في نظر الكثيرين المثل الأعلى في الدول، والمجتمعات والأفراد والصفة الحميدة التي يحاول الناس الاتصاف بها، والاعتزاز بالتحلي بها.
ولهذا تجد الشيوعي يدعي أن الشيوعية هي الديمقراطية كما يدعي الرأسمالي أيضا، ويصر على أن المبدأ الرأسمالي هو المبدأ الديمقراطي، والسائرون في ركاب كل منهما يدعون ذلك أيضا، حتى أظلم العملاء وأشدهم تعسفا يتصفون بها.
والأسوأ من ذلك كله أن يقول بعض علماء المسلمين وجمهرة مثقفيهم-زورا وبهتانا-إن الإسلام ديمقراطي أو إن الإسلام دين الديمقراطية، أو إن الديمقراطية هي الإسلام، أو هي مأخوذة منه على الأقل، مستدلين على ذلك ببعض المواقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمواقف بعض الخلفاء الراشدين، وفسروها بأنها ديمقراطية، بل هي قمة الديمقراطية.
مثل موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر حين قال "أشيروا علي أيها الناس، وكأن الشورى وعملية أخذ الرأي والحرب عن الصواب هي الديمقراطية، ومثل رجوعه صلى الله عليه وسلم قائلا: أمنزلا أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله: بل الرأي والحرب ولمكيدة، فقال الصحابي: إذن فهذا ليس بمنزل، فلننزل على أدنى ماء من بدء، فاقتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصواب رأيه، فترك رسول الله رأيه وأخذ رأي الصحابي.
ومثل قول أبي بكر رضى الله عنه "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم".
ومثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه"من رأى فيّ اعوجاجا فليقومه، فقال له أعرابي: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر".
بمثل هذه المواقف أقاموا الدليل على قولهم أن الإسلام دين الديمقراطية ناسين أو متناسين أن هذه المواقف ومثلها ليست سوى كيفية للتوصل إلى أقرب رأي للصواب أو إلى الصواب، وأنها أحكام شرعية جاء بها الوحي من عند الله وليست من تشريعات البشر كما نسوا أو تناسوا أن الديمقراطية نظام عيش، وطراز حياة وضعه الناس بكيفية معينة.
ولهذا كان لا بد من عرفة حقيقتها من معرفة العقيدة التي تقوم عليها، والأصل الذي تنبثق عنه نظمها وقوانينها، والكيفية التي يتم بها وضع هذه النظم والقوانين كي يصح الحكم عليها.
حافظ صالح
الديمقراطية
نتيجة للهالة التي أحاط الناس بها هذه الكلمة، فقد كثر الداعون لها والمستترون بردائها، وقد وضع كل منهم لها معنى يتناسب مع عقيدته، ويتفق مع أهدافه فتشعبت معانيها، وتعددت أبعادها، حتى ابتعدت في كثير من الأحيان عن المعنى الأصلي الذي وضعت من أجله ابتداء.
فكان لا بد ونحن نناقش كلمة الديمقراطية أن نلم بكافة المعاني التي أطلقت عليها، سواء المعنى الذي وضعه أصحاب هذه الكلمة، أم المعاني الأخرى التي الصقت بها، أو أطلقها الناس عليها، وسواء أطلقت على عقيدة المبدأ أم على كيفية وضع معالجات المبدأ وأحكامه، أي الدستور والقوانين أم على الأسلوب المتبع في التوصل إلى حكم أو رأي، أو استعملت في التعبير عن تواضع الحكام والمسؤولين أو في استشاراتهم وكيفية أخذ الرأي من أعوانهم، أي الشورى كالتصويت وأخذ رأي الأكثرية. وغير ذلك وسواء استعمل أسلوب رفع الأيدي عند أخذ الرأي، أو الاقتراع السري، أو جلوس الموافق على الرأي على جهة اليمين والمعارض على جهة اليسار، و في أي اسلوب آخر.
هذه بعض المعاني العامة التي وضعت لها هذه الكلمة أو الصقت بها.
أما المعنى الحقيقي الذي أطلقت عليه هذه الكلمة أي كلمة ديمقراطية-فهو حكم الشعب بالعشب وللشعب-حيث أنها كلمة يونانية الأصل-اغريقية –وهي مركبة من كلمتين هما "ديمو" و"كراتيك" (Demo Cracy) وتعني أن السيادة للشعب، أي أن الشعب هو الذي يمارس إرادته، فهو الذي يضع قوانينه ونظم حياته، وهو الذي يختار حكامه، وهو الذي يلزم الحاكم بتنفيذ هذه النظم والقوانين.
كما عرفت أيضا أنها نظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد، وكرامته الشخصية الإنسانية ويقوم على أساس مشاركة الأعضاء-أي أفراد المجتمع-في إدارة شؤون أفرد المجتمع.
كما وضعت لها أسماء تتناسب مع المعنى المراد أداؤه فقالوا:
الديمقراطية السياسية Political Democracy وهي أن يحكم الناس أنفسهم على أساس من الحرية والمساواة فلا تمييز بين الأفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة.
الديمقراطية الإدارية Demo Administration للدلالة على القيادة الجماعية التي تتم بالمشورة والمشاركة مع المسؤولين في عملية اتخاذ القرارات.
الديمقراطية الصناعية Industrial Demo وهي عبارة عن تنظيم الصناعة على أسس ديمقراطية باشراك العمال في الإدارة والتخطيط ورقابة العمليات الصناعية عن طريق اللجان، مثل لجان الإنتاج،ولجان فض المنازعات ولجان المقترحات ولجان المنشآت إلى غير ذلك من اللجان.
الديمقراطية المركزية Demo Centralism وهي نظام أساسي في المبدأ الشيوعي يتضمن انتخاب جميع اعضاء الحزب من القاعدة،وتقديم تقرير دوري عن سير العمل إلى القادة وهذا هو الجانب الديمقراطي-كما يزعمون-كما يتضمن خضوع الأقلية للأغلبية وقيام الأجهزة السفلى بتطبيق قرارات الأجهزة العليا،وهذا هو الجانب المركزي.
فهذه مجموعة من المعاني التي أ"لقت عليها لفظة الديمقراطية، بل مصطلح كلمة ديمقراطية سواء أكان هذا المصطلح منطبق على المعنى الذي وجد من أجله أم لا.
وموجز القول في معنى مصطلح الديمقراطية، أن السيادة للشعب فله أن يمارس أرادته كاملة بوضع دستوره وقوانينه ونظم حياته، كما أن لهذا الشعب أن يمارس إرادته باختيار حكامه دون ضغط أو إكراه، ولأجل أن يتمكن من ذلك كله-وضع الدستور والنظم والقوانين واختيار الحكام-كانت الحريات العامة هي الأساس الذي يجب توفيره لكل فرد حتى يتمكن من المشاركة في الحكم والمشورة والاختيار، كما أن هذا هو الأصل الذي قامت عليه بقية التسميات لها.
كما أنها تعتبر مبدأ قائما بذاته وهو المبدأ الرأسمالي –الذي سمي بالرأسمالي من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه-وإلا فهي العقيدة التي يقوم عليها المبدأ الرأسمالي: وذلك أنه نتيجة للصراع الدموي بين الكنيسة والأمراء، ومحاولة الكنيسة بسط هيمنتها على كل شيء في حياة الناس، وعدم قدرة أي من الفريقين على حسم الموقف لصالحه، قام جماعة من المفكرين ينادون بالديمقراطية، أي ترك الناس يختارون حاكمهم ونظمهم وقوانينهم مع بقاء سلطة الكنيسة على ما هو من اختصاصها، وبهذا وجد المبدأ الديمقراطي أي الرأسمالي وجعلت عقيدة فصل الدين عن الحياة قاعدة فكرية له، والأساس الذي يقوم عليه المبدأ، وجعلت كرمة الفرد الإنسانية وقيمته الأساس الذي تنبثق عنه نظم الحياة وقوانينها ومن هنا كان لا بد لهذا الفرد حتى يستطيع القيام بهذه المهمة من التمكن من مباشرة سيادته، أي ممارسة إرادته وذلك بإعطائه الحريات العامة أي الحريات الأربع، حرية العقيدة، وحرية الرأي وحرية التملك، والحريات الشخصية، حتى أصبحت هذه الحريات هي أقدس المقدسات عند حملة هذا المبدأ، حيث أنها –حسب تعبيرهم جعلت الفرد سيد نفسه، ولا سلطان لأحد عليه وهذه هي الفردية في المبدأ الرأسمالي، إلا أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه ولا يعيش بمفرده، ولهذا فقد اتفق حملة هذا المبدأ على نظرية العقد الاجتماعي في تكوين المجتمعات ونشوئها،وهي التي تقضي بأن يتنازل كل فرد عن جزء من حريته لفئة منهم تقوم بحماية حرية الأفراد، ومنع الاعتداء عليها ولما كانت المجتمعات والكيانات السياسية تقوم على علاقات دائمة بين أفرادها كان لا بد من وضع دستور يحدد شكل الدولة وأجهزتها وعلاقات هذه الأجهزة مع بعضها، وعلاقتها بالدولة وعلاقتها بالأفراد، وأن يضع هذا الدستور مجموعة الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع، لذلك كان على هؤلاء الأفراد أن يختاروا نفرا منهم يضع هذه النظم، وأن يعهدوا إلى فئة بسن التشريعات والقوانين لأنهم المصدر الوحيد للتشريعات والقوانين ما دام أن الدين لا يجوز له أن يتدخل في حياة الناس وعلاقتهم مع بعض، ومن هنا فقط أطلق على عقيدة هذا المبدأ، عقيدة فصل الدين عن الحياة، كما أن على هؤلاء الأفراد أن يختاروا حاكمهم أو حكامهم ليقوموا بتنفيذ تلك التشريعات والقوانين.
إذن فالأمر هم الذين يضعون دستورهم ونظمهم وقوانينهم وتشريعاتهم، وتقوم الهيئة التنفيذية التي اختاروها واستأجروها بتطبيق تلك النظم والأحكام على الناس ولا دخل للدين، ولا لرجال الدين، ولا للكنيسة، ولا للاكليروس-الهيئة الكنسية-دخل في وضع تلك الأحكام وتنفيذها.
ولما كان من المستحيل أن يجتمع جميع الأفراد، أو أن يجمعوا على وضع كل حكم من الأحكام، أو على حكم واحد منها، وذلك لتعذر اجتماعهم جميعا في مكان أو أمكنة متعددة، ولتعذر اجتماعهم جميعا في مكان أو أمكنة متعددة، ولتعذر اجماعهم كذلك بسبب التفاوت والتناقض والاختلاف والتأثر بالبيئة بين الأفراد، فالطاقات العقلية والجسمية متفاوتة قوة وضعاف ولا ريب، والخلفيات النفسية والفكرية متناقضة ومختلفة بين الناس، كما أن مواطن العيش واختلاف البيئات حقيقة ثابتة تترك بصماتها على الأفراد، لكل هذا فقد اتفقوا على النزول على رأي الأكثرية النسبية بغض النظر عن كونه صوابا أم خطأ هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية أي المبدأ الرأسمالي.
من هنا نقول أن الديمقراطية بكافة معانيها تقوم على قاعدة واحدة هي عقيدتها، وهي قيادتها الفكرية، وهذه العقيدة هي فصل الدين عن الحياة، وأن الإنسان هو الذي يضع نظم حياته وقوانين سلوكه ولا يتأتى له ذلك إلا إذا تحققت له السيادة وتوفرت له ممارسة الإرادة أي تمكينه من الحريات العامة وممارسته لها.
ولهذا فن البحث في صلاح فكرة الديمقراطية أو فسادها، إنما يكون ببحث الفكرة التي تقوم عليها أي عقيدتها وكذلك ببحث الأصل الذي بنيت عليه وهو الحل الوسط-ثم بحث المصدر التشريعي لها-أي جعل الإنسان هو الذي يضع التشريعات جميعها من دستور ونظم وقوانين، فإن ثبت أن هذه الأصول الثلاثة للديمقراطية فاسدة فإن جميع ما يصدر عنها من معالجات وما يبنى عليها من أفكار يكون فاسدا قطعا، وبالتالي فإنها تؤدي إلى شقاء الإنسان وتعاسته بدلا من أن تؤدي إلى رفاهيته وسعادته.
الفكرة الأساسية للديمقراطية
لكل مبدأ من المبادئ فكرة أساسية شاملة يقوم عليها حتى يصح أن يسمى مبدأ وتكون هذه الفكرة عقيدة المبدأ وقاعدته الفكرية التي تنبثق عنها معالجات مشاكل الإنسان في الحياة ولما كانت العقيدة بمعناها الاصطلاحي كما جاء في القواميس اللغوية هي الفكرة الكلية عن الكون والحياة والإنسان، وعما قبلها، وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها، وعن علاقتها بما بعدها، أي هي الإجابة على كافة التساؤلات التي تجابه الإنسان حيثما كان فهو كان يتمتع بالحياة على هذه الأرض في هذا الكون.
إذن فالديمقراطية فكرة أساسية شاملة أجابت على كافة الأسئلة التي تجابه الإنسان في الحياة ووضعت له الأساس الذي تنبثق عنه كافة المعالجات لمشاكله في الحياة الدنيا، بغض النظر عن صحة هذه الأجوبة أو خطأها، وكانت كذلك قاعدة فكرية تبنى عليها أفكار الحياة ومفاهيمها وقيادة فكرية آمن بها الكثير من الناس فانقادوا بها، وحملوها لغيرهم من الناس لاعتناقها وتطبيقها في حياتهم، فأنشئت عليها مجتمعات كثيرة وقامت عليها دول استطاعت أن تبسط سلطانها، وتفرض هيمنتها وتمد نفوذها على غيرها من الدول والمجتمعات وتطبق عليها نظمها وقوانينها، وبذلك اكتمل وجود هذه الفكرة في الحياة وشقي العالم بها، وما زال يعاني من ويلاتها ومصائبها، وما سببت للانسانية من كوارث ونكبات.
كان ذلك نتيجة حتمية لاجوبتها على تساؤلات الإنسان في الحياة فحين أجابت على السؤال عن معنى الوجود، أي حين أعطت اجابتها عن الكون والانسان والحياة لم تقرر حقيقة ولم تعط إجابة واضحة عن ذلك، بل تهربت من الاجابة على هذا السؤال، واكتفت بالقول أنه ليس من الضروري تقرير حقيقة هذا الوجود سواء أكان له إله خلقه أم ليس له إله، إلا أنه لا دخل له في الحياة، قاصدة حسم النزاع القائم، بل الصراع الدامي بين المؤمنين بوجود إله والمنكرين لوجود إله، فلم تقر حقيقة وجود إله لهذا الوجود، ولم تنكر على الملحدين انكارهم، بل تركت لكل إنسان أن يعتقد ما يشاء، فجاء جوابها حلا وسطا بين المتخاصمين، ولهذا كانت فكرتها الأساسية مبنية على الحل الوسط، لا على تقرير حقيقة، ومن شأن هذا الجواب أن يبقي الأمور معلقة، والأفكار مضطربة لأن العقل الإنساني السوي لا يرضى بمثل هذه الأجابة.
وأما اجابتها عن المرحلة الزمنية التي يحياها الإنسان على هذه الأرض فلم تختلف عن اجابتها الأولى وقالت بالحل الوسط كذلك، فترت للملحد أن يقول : (ما هي إلا حياتنا لادنيا نموت ونحيا ما ويهلكنا إلا الدهر) الجاثية الآية 24 .ولم تقرر أن هناك حياة أخرى سيحاسب فيها الإنسان على أعماله كما أنها لم تنف سلطان الكنيسة، وصلاحيات البابا وكونه الوسط بين الله والناس بل نفذت ما يقال "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، إلا أنها أنكرت وجود علاقة بين الخالق والمخلوق في شؤون الحياة الدنيا،وتركت أمر شؤون الآخرة موكولة إلى الفرد بعلاقته بالكنيسة.
أما عن نظرتها للحياة ومستلزماتها وما يوصل إلى سعادة الإنسان ورفاهيته فقد جعلت النفعية هي المقياس الذي يقيس عليه الفرد تصرفاته وجعلت معنى السعادة أن يشبع الفرد أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية، وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بإعطاء الفرد حرياته العامة والمحافظة عليها، كي يتمكن من تنظيم حياته، وتنمية ثروته وإشباع جوعاته.
وبهذا تكون الديمقراطية قد أعطت فكرة شاملة عن الوجود وعن الحياة وعن وجهة النظر في الحياة وعن معنى السعادة فكانت بذلك عقيدة لمبدأ وقاعدة فكرية تبنى عليها الأفكار، وقيادة فكرية تنبثق عنها النظم والقوانين بجعل الإنسان مصدرها فانقاد بها الكثير من الناس، وبنوا عليها كياناتهم السياسية ومجتمعاتهم وحملوها إلى غيرهم كذلك.
محاكمة الفكرة
إن المحاكمة تعني تقرير حقيقة ما، بناء على مجموعة من المقاييس والقواعد التي يرتضيها المتخاصمان يقضي القاضي بموجبها، بعد الإطلاع على وجهتي نظر المتخاصمين ومحاولة معرفة صدق أقوال كل منهما، كما أنها تعني وضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج لمعرفة مدى انحراف المتهم عن جادة الصواب، ولكل قضية مختلف عليها مقاييس وقواعد وقوانين تبين حقيقتها من حيث مطابقتها للواقع أو بعدها عنه فمحاكمة إنسان في قضية ما لا بد لها من مقاييس معينة خاصة بهذا النوع من القضايا المتعلقة بالإنسان، من مثل مواد الدستور وأحكام القوانين والقواعد التي يرجع إليها القضاة، حتى تقر تلك القضية أو ترد، أما محاكمة نص من النصوص فإنما تجري محاكمته من حيث المتن، أو من حيث السند ولكل من الحالتين قواعدها ومقاييس، ومحاكمة فكرة ما يقضي وجود قواعد ومقاييس مسلم بها يرجع اليها حين محاكمة تلك الفكرة.
ولذلك حين نريد أن نحاكم فكرة ما-أي ما نحن بصدده الآن- لنحكم عليها صحيحة أم خاطئة، فلا بد من الرجوع إلى مجموعة المقاييس والقواعد والقوانين مسلما بها عند الناس، أو عند المتخاصمين على الأقل، حتى تكون نتيجة الحكم مقبولة ومرضيا عنها، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا من النتيجة ويسلموا تسليما، وإلا تشعبت الأفكار، واختلفت الآراء والأحكام، واختلف الناس فيما بينهم باختلاف هذه القواعد والمقاييس والقوانين التي يتحاكمون إليها.
وبالرغم من صعوبة الاتفاق على مجموعة المقاييس والقواعد، إلا أن هناك مسلمات عقلية وقواعد مشتركة لم يختلف فيها اثنان من العقلاء، مثل الاحتكام إلى العقل ومسلماته البديهية، ومثل مطابقة الحكم للواقع، ومن مثل الاحتكام إلى قواعد عقيدية يعتقدها المتخاصمان وأعني بها موافقة الحكم إلى مسلمات عقيدية ثبت أصلها بالعقل، أي آمن بها الطرفان.
فالعقل حين يقضي باستحالة اجتماع النقيضين أو استحالة إيجاد الشيء من عدم من قبل الإنسان أو أن وراء كل نظام منظما، أو أن الاثنين أكثر من الواحد فهذه أحكام ومسلمات بديهية عند العقلاء، فحكم العقل على وجود الشيء أو على مثل هذه الأمور يكون مسلمة بديهية عند العقلاء ولهذا فالعقل والاحتكام إليه والنزول على قواعد ومقاييسه مما يسلم به كافة العقلاء.
ومن هذه القواعد المشتركة عند العقلاء كذلك مطابقة الحكم للواقع، فحين ينظر في الفكرة التي يراد محاكمتها ومعرفة الخطأ فيها، أو صحتها، فإنه ينظر فيها لمعرفة دلالتها ثم يصار إلى تطبيق هذه الفكرة على الواقع الذي تدل عليه حسب ادعاء واضعها، فإن انطبقت عليه تماما كانت صحيحة وإلا فهي فكرة خاطئة، أي لا تنطبق على واقعها.
فحين تعرض فكرة أن الزيت أخف من الماء وأن 10×10=100، وأن العقل هو مناط التكليف نحاول تطبيق هذه الأفكار على واقعها فنجد أنها مطابقة له فنجزم بصحتها وصدقها.
ومن هذه القواعد، ما يتفق عليه المتخاصمان من مسلمات عقيدية قد لا يستطيع العقل إدراك واقعها لأنه لا يقع تحت الحس، وبالتالي فهو أي العقل عاجز عن إمكانية تطبيقها على الواقع، فيقتضي التسليم بصحتها انطلاقا من التسليم بصحة القاعدة التي انبثقت عنها أو جاءت بها. وذلك لأن العقيدة ثبت أصلحا بالعقل، فاقتضى التسليم، وكان تسليما عقيديا ثبت أصله بالعقل. وإن خالفت تلك الفكرة أمرا قطعيا ثبت أصله بالعقل، وإن خالفت تلك الفكرة أمرا قطعيا من أمور العقيدة التي ثبت أصلها بالعقل فإنها ترد وترفض رفضا قطعيا، ويحكم عليها بأنها فكرة خاطئة فنظرية داروين مثلا-نظرية النشوء والارتقاء-نحكم قطعا ببطلانها وذلك لمخالفتها لما ثبت قطعا في العقيدة، أي في القرآن الكريم فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه بدأ خلقه بآدم عليه السلام من صلصال كالفخار، وأخبرنا أ،ه خلقه من طين لازب، وأن آدم هو أول إنسان خلقه الله على هذه الأرض، قال تعالى(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) الحج الآية 5 ، الآية وقال تعالى(خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار) الرحمن الآية 14 ، وقال تعالى: (خلقتني من نار وخلقته من طين) ص الآية 76 ، وقال تعالى(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) السجدة الآية 7 ، إلى غير ذلك من الآيات التي تقطع يقينا بأن آدم أبو البشر وأن الله بدأ خلقه من تراب، وهذا ما يحتم على كل من آمن بالقرآن أنه كلام الله أن يرد نظرية داروين-نظرية النشوء والارتقاء-ويقطع ببطلانها، حتى لو عجز عن إثبات بطلانها عن طريق الحس، أو العقل.
كما أن علينا أن نسلم يقينا بأفكار لا يمكن للعقل أن يحكم عليها لانها لا تقع تحت الحس، وليس لها واقعا مدركا بالحس من مثل قوله تعالى في كتابه العزيز عن شجرة الزقوم فقال(إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين لا يأكله إلا الخاطئون) الصافات الآية 64 .وقال(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) الدخان الآية 43 ، ولهذا فإن جميع ما جاء في العقيدة من نصوص قطعية تعتر قواعد ومقاييس تحاكم عليها الأفكار ويلتزم بما تقضي به هذه القواعد والمقاييس سواء وافقت العقل أم لا.
هذه المقاييس والقواعد التي اتفق عليها مجموعة العقلاء، وهي الحاكم فعلا على صحة أية فكرة بغض النظر عن قائل هذه الفكرة أو المصدر الذي نشأت عنه، فما قطعت هذه القواعد والمقاييس بصحته فهو الصحيح، وما قطعت ببطلانه فهو الباطل، وأعني بهذه القواعد والمقاييس الاحتكام إلى العقل، والاحتكام إلى مطابقة الواقع، والاحتكام إلى ما جاءت به العقيدة.
محاكمة فكرة الديمقراطية
بناء على تلك الأسس التي أثبتناها لمحاكمة أية فكرة كان لا بد من معرفة واقع فكرة الديمقراطية حتى يكون الحكم عليها عادلا، أي منطقيا على واقعه، فما هي هذه الفكرة.
من التدقيق في كافة المعاني التي تضمنتها هذه الفكرة والتي ألصقت بها كذلك نجدها تقوم على عقيدة عقلية واحدة، وهي فصل الدين عن الحياة، أي لا دخل للدين في تنظيم شؤون الحياة.
هذه هي العقيدة التي تقوم عليها الديمقراطية والأساس الذي بنت عليه أفكارها، والأصل الذي انبثقت عنه معالجاتها، الكلية منها والجزئية، وكانت حصيلة نظرة في الوجود لاعطاء فكرة كلية عنه، وتقرير حقيقته كأي عقيدة أخرى إذ أنهم عرفوا العقيدة كما جاء في قواميس اللغة الحديثة، أنها فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة وعن علاقتها بما قبل الحياة الدنيا وما بعد الحياة الدنيا. إلا أنها أي الديمقراطية حين أرادت تقرير الحقيقة، حقيقة الوجود، وقفت بمنتصف الطريق فلم تواصل بحثها واكتفت بالهزيمة في ذلك لتضع حلا وسطا يرضى كافة الأطراف المتصارعة في حينه، فقالت لا ضرورة لتقرير الحقيقة في الوجود، ومعرفة مصدره وسواء أكان أزليا أم مخلوقا لخالق إلا أن هذا الخالق لا دخل له في الحياة، وفي علاقات البشر، فالإنسان هو الذي يعالج مشاكله وينظم حياته، دون ضغط أو إكراه، أي فصل الدين عن الحياة.
هذا ما أقرته كحقيقة قطعية، وبنت عليه بقية أفكارها الكلية والجزئية، وبمحاكمة هذا القول تحت القواعد العقلية والمقاييس التي تبين عقلا صحة هذا القول من خطئه نقول أن العقل البشري السوي لا يرتضي حكما ليس مبنيا على قاعدة عقلية، والقول بفصل الدين عن الحياة بدلا من تقرير حقيقة: تقرير حقيقة الوجود، وما وراء هذا الوجود، والاكتفاء بالبناء على حل وسط، لارضاء الأطراف المتصارعة وكسب رضاها، إن مثل هذا القول، ومثل هذه الفكرة يأبى العقل السليم جعلها قاعدة فكرية صحيحة، من حيث أنها لم تبن على العقل، بل إنها بنيت على حل وسط أي أنها لم تبن على أساس عقلي، لأن الأساس العقلي لا بد أن يكون العقل قد قرر حقيقة، والموضوع هنا أولا هو تقرير حقيقة الوجود، أهو أزلي؟ أم أنه مخلوق لخالق؟ فلا يجوز الوقوف فيه موقف اللامبالاة أو الشك، لأن اللامبالاة أو الشك مناف للحقيقة وحين قالت بفصل الدين عن الحياة أقرت ضمنا بوجود دين، ولكنها لم تقرره كحقيقة، ولجأت إلى قطع علاقة الوجود بما قبله دون إقامة أي برهان عقلي على ذلك، في الوقت الذي لم تنف فيه علاقة الإنسان بالآخرة من حيث اعترافها بوجود دين، وهذا فإن هذه الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية فكرة خاطئة من حيث أنها لم تبن على العقل، ومن حيث أنها توقفت عن البحث في منتصف الطريق، ومن حيث أنها ارتضت أن تبنى على الحل الوسط، وهو حل يتنافى مع العقل، حيث أن العقل يقضي بوجود أو عدم ، يقضي بحق أو باطل، يقضي بصح أو خطأ ليس غير من هنا كانت فكرة قائمة على أساس من الوهم وجاءت بحلول مؤقتة منافية لما يقتضيه العقل السويّ.
أما من حيث تحديد مصدر معالجاتها لشؤون الحياة، وقولها أن الإنسان هو مصدر التشريع،وأن مجموعة الأفراد هم الذين يضعون معالجات مشاكلهم، وهم الذين يشرّعون احكامهم. فإن هذا القول كذلك لا يتفق مع ما يحكم به العقل، فاستحالة اجتماع الناس جميعا لتقرير حكم واحد أمر يجزم به العقل، فكيف بكاقة القوانين والتشريعات، ولذلك فقد تهربوا أيضا في هذه المسألة وقالوا بالنزول على رأي الأكثرية مع ما في هذا القول من تضليل وضلال.
هذا بالنسبة للاحتكام إلى العقل، وما له من قواعد ومقاييس، أما من حيث مطابقتها للواقع، فإنها من حيث فكرتها الأساسية فقد تهربت من الإجابة الإيجابية واكتفت بإجابة سلبية قالت فيها أ،ه سواء أكان لهذا الوجود خالق أم لم يكن له خالق، فهذه إجابة سلبية ومنافية للواقع تماما، إذ أن كل ما في الوجود يؤكد وجود موجود له، أي خالق له، ومع ذلك فهي تقف من هذه الحقيقة ذلك الموقف المائع المخالف لحقيقة الوجود، وأما قولها لا دخل له في الحياة، أرادت أن تقرر حقيقة ولكنها مبنية على وهم فهي تعترف ضمنا بوجود خالق لهذا الكون، ولكنها تقرر أنه لا دخل له في الوجود فكيف أنه لا دخل له في الوجود؟ وما الدليل على نفي علاقته بالوجود؟ فالنفي والإثبات حقائق لا بد من إقامة الدليل على أي منها.
وأما من حيث الأصل الذي جعلته أساسا، لها وهو قولها حكم الشعب بالشعب فهذه كذبة كبرى تحكم هي على ذاتها بالكذب، فهذا قول بعيد عن الصحة تماما، سواء من حيث الحاكم، أو من حيث قواعد الحكم ونظمه وقوانينه، فهذه أمور تتناقض مع الواقع وتخالفه تماما حتى لو بنيت على الحل الوسط، أو النزول على حكم الأكثرية.
أما من حيث حكم الشعب، فإن الشعب لا يحكم والذي يسن الدستور ويضع التشريعات والقوانين هم فئة قليلة لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من الناس، وأما من حيث الحاكم أي بالشعب، أي أن الشعب هو الذي يختار حكامه، فإن هذا القول مبني على مغالطة فظيعة، فالذي يحكم واحد أو هيئة تنفيذية لا تزيد في كل أحوالها عن مجموعة صغيرة تقوم بتنفيذ ما شرع لها من أحكام، وأما الذين اختاروا هذه الفئة فهم أقلية في المجتمع، أما تفصيل هاتين النقطتين فهو كمايلي:
فالنقطة الأولى والتي تقول حكم الشعب، أي أن الشعب هو الذي يضع دستوره وقوانينه وتشريعاته فما من أحد منا إلا عاصر نشوء دول أو كيانات سياسية، أو عاش في بلد ديمقراطية فعرف كيف تسن القوانين وتشرع التشريعات ويستطيع تلمس بطلان هذا القول، ومع ذلك ونحن نحاكم هذه الفكرة فلا بد لنا من توضيح كيف يوضح الدستور أو تسن التشريعات.
حين نشوء دولة ما، أو وجود كيان سياسي جديد، أو إجراء تغيير أساسي في دولة من الدول بسبب انقلاب أو غيره، يعمد القائمون على هذا النشوء أو هذا التغيير يعمدون إلى إيجاد هيئة مؤسسة قد تكون من كبار المحامين والحقوقيين والمشرعين في البلد تقوم على وضع دستور لذلك البلد، إما من بات أفكارهم، وانطلاقا من القواعد والأسس الموجودة في نفوسهم، وأما ان ينقلوه عن دستور أو دساتير دول أخرى مع إجراء بعض التعديلات عليه، ثم يطبق هذا الدستور على الناس، أما دون الرجوع إلى الناس، واما بعرضه على المجلس التشريعي في ذلك البلد ليرى رأيه في تعديل بعض المواد أو إقرارها جميعها، أو بعرضه على جميع الناس، وفي كلا الحالين فإن الأغلبية العظمى من أية أمة من الأمم لا تعرف التشريع، وليس لها أدنى إطلاع على سن القوانين، ووضع الأسس لتنظيم الحياة،ولذلك فإن هذا القول-حكم الشعب-ليس له واقع إطلاقا من حيث وضع الدستور، وهو تنظيم شكل الدولة، وأجهزتها، وصلاحيات المسؤولين فيها، وصلاحية كل جهاز، فهذه أمور تتطلب الاختصاص ولذلك فإن الأمة بمجموعها تجهل مثل هذه الأمور تماما كما يجهلها مجلس النواب نفسه.
وأما من حيث التشريعات القانونية، فهم يدعون أن الهيئة التشريعية أي مجلس النواب-الكونغرس-هو ممثل للأمة، وأنه هو الذي يضع القوانين وكما نقضنا موضوع الدستور الذي هو قوانين عامة، أو قوانين أساسية ننقض كذلك أي قانون يراد تشريعه، ذلك أن أعضاء مجلس النواب أولا لا يمثلون الأمة وإنما يمثلون الفئة الأقل بالنسبة للأمة، فحين انتخبوا لتمثيل الأمة لم يكونوا وحدهم فقط هم المرشحين، وفازوا بالتزكية، بل كان لهم منافسون وجرت الانتخابات الحرة لتقرير الفائز الممثل للناس، فحين يتنافس ثلاثة أو أكثر على مقعد من المقاعد، وهذا هو الأصل، فإن الفائز يمثل الفئة الأقل في دائرته الانتخابية، وذلك بسببين، السبب الأول وهو تخلف نسبة كبيرة من الناخبين قد تزيد على الأربعين في المئة، ثم تتوزع البقية الباقية بين المتنافسين، فقد يفوز من يأخذ عشرين في المائة من الناخبين في دائرته، وبهذا يكون المجلس لا يمثل إلا الفئة الأقل، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن هؤلاء الممثلين لم يخترهم الناس لأنهم قادرون على التشريع وسن القوانين، ولذلك قد لا نجد فيهم من يفهم التشريع والقانون إلا القليل النادر، وهذه القلة النادرة تشكل منها لجنة قانونية تقوم بوضع مشاريع قوانين، ثم تعرض على البقية من هؤلاء النواب الذين لا يعرفون ما هي التشريعات والقوانين لاقرارها، وغالبا ما تقرها الهيئة التشريعية بكاملها ومع ذلك يدعون أن هذا حكم الشعب فهل ينطبق هذا القول على واقعه !!
هذا من حيث قولهم حكم الشعب، وقد تبين لنا فساد هذا القول، وعدم مطابقته للواقع، وأما قولهم بالشعب، ويعنون بذلك أن الشعب هو الذي يختار حكامه، فإن هذا القول لا يقل مغالطة عن سابقه، وينطبق عليه ما ذكرنا عن سن القوانين والتشريعات ووضع الدستور وإليكم البيان:
قيل، وهو قول حق-أنه بالمثال يتضح المقال-فليكن المثال من الواقع الذي تعيشه الشعوب والأمم فلنفترض أن شعبا من الشعوب الديمقراطية وليس فقط من الشعوب التي تدعي الديمقراطية انتهت مدة حاكمه وأراد هذا الشعب اختيار حاكم جديد له، بدلا من الحاكم السابق، فإنّ الديمقراطية تجيز لايّ فرد من أفراد هذا الشعب أن يرشح نفسه للانتخاب، فإن من الطبيعي أن يتسابق ن يرون في أنفسهم القدرة على القيام بأعباء الحكم للفوز بهذا المنصب، وتعطى لهم الفرصة للقيام بحملاتهم الانتخابية، وصرف الأموال الطائلة عليها، هذا من جهة ومن جهة أخرى تقوم الجهات المسؤولة بإعداد قوائم المرشحين، وتنظيم مراكز الاقتراع، إلى غير ذلك من الاعمال التي تقتضيها عملية الترشيح والانتخاب.
فلو افترضنا أ، هذا الشعب مكون من عشرين مليون نسمة، فإن أعلى نسبة فيه لعدد الناخبين لا تتعدى 25% من عدد السكان، أي أن قوائم المرشحين تحتوي على خمسة ملايين ناخب فق، فما عدد الذين سيحضرون إلى مراكز الاقتراع ويدلون بأصواتهم ولنضع بعين الاعتبار ما في ذلك المجتمع من مسنين أو معاقين لا يستطيعون الحضور إلى مراكز الانتخاب، ففي أحسن الحالات وفي أكثر الشعوب حيوية لا يزيد مطلقا عدد الحضور عن 80% من مجموع الناخبين أي أن العدد سوف لن يزيد عن أربعة ملايين ناخب.
فإذا كان عدد المتنافسين على كرسي الرئاسة أربعة مثلا، أو كثر فإن هؤلاء الأربعة سيتقاسمون هذه الأصوات بنسب متفاوتة، فيحظى بهذا المنصب من يأخذ أكبر عدد من الأصوات فلو أخذ أحدهم-بفوز ساحق-مليوني صوت، وتقاسم الثلاثة الآخرون الأصوات الأخرى، فإن من حصل على مليوني صوت سيصبح هو الحاكم حتما، ثم يقوم باختيار الهيئة التنفيذية التي ستساعده في تنفيذ الاحكام وتطبيقها على المجتمع.
وبهذا يكون الحاكم ممثلا لمليوني فرد فقط ويعارضه مليونان آخران معارضة فعلية وسكت عنه مليون ناخب لم يدلوا بأصواتهم، وفرض نفسه على خمسة عشر مليونا فهل هذا هو حكم الأكثرية؟ أم هو حكم الأقلية؟
ولذلك فإن القول بأن الديمقراطية هي حكم الشعب كذبة كبرى، وأكبر منها أن يقال أن الحكم للأكثرية، وكان الأولى، بل الأصح، أن يسمى هذا النوع من الحكم هو حكم الأقلية للأكثرية وليس العكس، سواء من حيث اختبار الحاكم، أم من حيث تنفيذها، وحتى أيضا من حيث تشريعها وسنها قوانين للتنفيذ.
ومن هنا نقطع يقينا أن نظام الحكم الديمقراطي هو حكم الأقلية للأكثرية قولا وعملا، ولا نجافي الحقيقة حين نؤكد أن الشعب لا يختار حكامه بشكل صحيح، ولا يضع دستوره أو قوانينه أو تشريعاته بنفسه، وعليه بالديمقراطية فكرة خيالية لا يقرها العقل السليم، ولا تنطبق على الواقع.
بقيت مسألة واحدة، في هذا الموضوع، وهي قولهم أن السيادة للشعب وهذا يقتضي معرفة المعنى من هذا القول إن معنى السيادة هو ممارسة الإرادة، أي أن التصرف والسلوك يجب أن يكون تبعا للرغبة والهوى دون ضغط أو إكراه، سواء بالنسبة للفرد أو بالنسبة لمجموع الأفراد، حيث أن الشعب بنظرهم هو مجموعة من الأفراد، وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع، فالفرد الذي يملك سيادته هو الذي يمار إرادته فيسير سلوكه، وينظم أمور ويقضي مصالحه، ويعالج مشاكله حسب هواه ورغبته دون ضغط أو إكراه أو تنفيذ لرغبات غيره أو طاعة لأوامر أية جهة كانت. هذا معنى ممارسة الإرادة، وهذا هو معنى السيادة، أما الفرد الذي يملك إرادته، ولكنه لا يستطيع أن يمارسها بسبب الرق أي العبودية أو بسبب بيعها أو تأجيرها لغيره، أو خضوعه لأوامر غيره بالضغط والإكراه فإنه لا يقال أنه سيد نفسه، وأنه صاحب سيادة أو أنه يتصرف على هواه، أو أنه حر في تصرفاته فالحرية في التصرفات والسلوك إنما تعني عدم الخضوع فيها إلا لرغبه هو، وتبعا لهواه.
وما ينطبق على الفرد في هذا الأمر على الشعب فالشعب الذي يملك سيادته، هو الشعب الذي يمارس إرادته، وأما الشعب الذي يملك إرادته ولكن لا يمارسها بل يمارسها غيره، فهو شعب مستعد، وممارسة الإرادة إنما تظهر في تسيير هذا الشعب لعلاقاته العامة داخليا وخارجيا حسب مصلحته ووفقا لارادته، فإن كان هذا الشعب هو الذي يختار حاكمه دون ضغط أو إكراه، وهو الذي يضع دستوره وكافة تشريعاته حسب رغبته وهواه، ودون ضغط أو إكراه، وهو الذي ينظم علاقاته بغيره، أي سياسته الخارجية حسب مصلحته ودون ضغط أو إكراه فمثل هذا الشعب يعتبر حرا يملك سيادته، وإلا وإلا فإنه مستعبد لمن أجبره على تنفيذ ارادته فحقق السيادة يشترط فيه ممارسة الإرادة.
وإنه وإن كان قولهم-السيادة للشعب-ليس منطبقا على واقعه حقيقة، كما ذكرنا إلا أن ممارسة الشعب لاختيار ممثليه في الهيئة التشريعية، وحق إبداء رأيه في الهيئة التنفيذية واختياره للحاكم دون ضغط أو إكراه يعتبر ممارسة للسيادة ما دام أن هذه الأمور تمت دون ضغط أو إكراه من دولة أخرى أو شعب آخر، ولهذا كان معنى قولهم السيادة للشعب أي أنه لا سلطان عليه لأجنبي فهو الذي بواسطة ممثليه في مجلس النواب يسن القوانين ويضع النظم والاحكام وهو الذي يختار حاكمه سواء عن طريق ممثليه، أو عن الطريق المباشر، وهو الذي يحدد علاقاته الخارجية حسب ما فيه مصلحة له دون ضغط أو إكراه.
ولا يختلف هذا الأمر كثيرا بين أنظمة الحكم في العالم،سواء أكانت ملكية مطلقة أم ملكية دستورية، وسواء أكان الحكم جمهوريا برلمانيا أم كان جمهوريا رئاسيا فالاختلافات شكلية وتختلف باختلاف عقليات واضعي الدستور والقوانين.
بعد الشرح لمعنى كلمة الديمقراطية وابعادها والأسس التي تقوم عليها، وبعد تلك المحاكمة لهذه الفكرة أي الديمقراطية خلصنا إلى نتيجة ثابتة وهي:
أولا: أنها ليست مبنية على العقل، فهي مبنية على الحل الوسط.
ثانيا: أنها خرجت عن البحث العقلي السليم حيث أنها توقفت عن مواصلة البحث فلم تجرؤ على تقرير حقيقة الوجود.
ثالثا: أنها فكرة خيالية لا تنطبق على الواقع، وتقوم على الوهم والخيال، فلا الشعب بمجموعه يسن القوانين ويضع النظم والأحكام والدساتير، ولا الشعب بمجموعه يختار حكامه.
رابعا: أنها حكم الأقلية للأكثرية وليس حكم الأكثرية للأقلية.
وأما الاحتكام إلى الأصل الثالث أي ما تقرره المسلمات العقيدية من قبول أو رفض من صحة أو خطأ، فإننا نقول إن الاحتكام إلى هذا الأصل، هو الأساس في حياتنا ولا يجوز الانصراف إلى غيره لقوله تعالى(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء الآية 65، نعم هذا هو الأصل الذي يقرر لنا كل حقيقة، ولكننا، ونظرا إلى ما خدع به شبابنا من وجوب الاحتكام إلى العقل، أو إلى مطابقة الأمر لواقعه، قمنا بعرض سريع لهذه الفكرة فكرة الديمقراطية على هذين الأصلين في الاحكام كي لا نترك ذريعة لاحد في أخذها، مؤمنا كان أم ملحدا وكي نطرحها في المجتمع على حقيقها.
إن الاحتكام إلى المسلّمات العقيدية أي إلى ما جاءت به العقيدة يرى بكل وضوح مناقضة الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية مع هذه المسلّمات .
فالديمقراطية تتهرب من الإجابة عن تقرير حقيقة فلم تجرؤ على القول بأن الكون والإنسان والحياة مخلوقة، أما المسلّمات العقيدية عندنا فإن الله خالق كل شيء.
والديمقراطية تقول بالحل الوسط والمسلّمات العقيدية تقول(فماذا بعد الحق إلا الضلال) يونس الآية 32 والديمقراطية تقول إن الإنسان حر ليس لأحد عليه سلطان، والإسلام يقول إن الانسان عبد الله. والديمقراطية تقول إن الانسان يتصرف حسب رغبته وهواه، والإسلام يقول إن الإنسن مجبر أن يتصرف حسب أوامر الله. والديمقراطية تحتكم إلى قوانين يضعها الناس والإسلام يوجب الاحتكام إلى الشرع. والديمقراطية مصدر التشريع فيها الشعب، والإسلام مصدر التشريع فيه هو الوحي.
وبالتالي: فهي مناقضة ومخالفة لما جاءت به العقيدة الإسلامية من أصول وفروع لا تلتقي به وكيف يلتقي من كان مصدره الشرع مع من كان مصدره العقل، من يحتكم إلى الله مع من يحتكم إلى الإنسان، وأخيرا فالمسلم يفخر أنه عبد لله، والديمقراطي يفخر بأنه حر ليس مقيدا بأي شيء.
الحرية
إن أي لفظة حين توضع لتدل على معنى معين في ذهن واضعها فالألفاظ والكلمات هي القوالب التي تصاغ فيها المعاني الكامنة في النفوس للتعبير عن هذه المعاني. فالكلمات ماهي إلا محاولة لتجسيد ما في النفس من رغبة أو إحساس أو عاطفة لنقلها للآخرين، والكلمات هي الوسيلة المستعملة عند البشر للتفاهم والمخاطبة وقضاء المصالح وتبادل المعارف، وتصير أدق العواطف والمشاعر والأحاسيس فهي محاولة نقل المعنويات وتجسيدها إلى ماديات يمكن إدراكها وتحديد أبعادها.
وحين نسمع كلمة أو جملة أو تعبيرا، ولم نكن قد سمعناها سابقا، أو لم نعرف معناها، فإننا نرجع بمعرفة معناه إلى أهل اللغة التي قيلت بها تلك الكلمة أو العبارة وجوابهم لنا حجة علينا يصح لنا أن نصير إلى معنى آخر، بل المعنى هو ما قاله أهل اللغة نفسها،سواء في معاني المفردات أم معاني الجمل، أم ما اصطلح عليه من معنا اصطلاحية أو عرفية أو شرعية أو مجازية وإنه وإن جاز أن نضع في الاعتبار عند فهم ذلك اللفظ. الظرف الذي قيل فيه، وقرينه الحال التي لازمته، بل يجب ملاحظة ذلك إلا أنه لا يجوز مطلقا أن نخذ المعنى تقديرا على ما في نفس القائل، فنقول كان يريد كذا وكذا، ولا أن نفسر المعنى حسبما يقتضيه هوانا، بل لا بد من النظر في اللفظة، والجملة، والفقرة، والمقالة، والموضوع من حيث مدلولات الألفاظ والكلمات التي استعملت فيه وحسب وضع أهل اللغة فقط، فلا تلحظ رغبة الكاتب ولا هوى المستمع، هذه هي القاعدة التي يجب أن تتبع عند فهم أي نص، مهما كان مصدره نعم إن مدلولات اللغة لا تعني فقط منطوق النص، فللنص منطوق وله مفهوم موافقه، وله مفهوم مخالفه،وله معقول، إلا أن ذلك كله هو من وضع أهل اللغة للمعاني التي تحتويها لغتهم وتعابيرهم، وأسلوبهم في الكلام.
هذه مقدمة موجزة عن كيفية فهم التعابير اللغوية حيثما وجدت، وبناء على هذه القاعدة نريد أ،نفهم أولا ثم نحاكم كلمة حرية إذ لا يصح محاكمة أي شيء حتى يعرف واقعه معرفة حقيقة، إن كلمة حرية كلمة عربية مثلها مثل ما اشتق من هذا الجذر-حر-كلمة أحرار وتحرر، وتحرير، وحريات، وقد حددت معانيها في اللغة بحيث أنها معروفة لدى جميع الناس، إلا أن كلمة حرية كمصطلح جديد صار لا بد من معرفة معناه من أصحابه الذين أطلقوه على بعض المعاني في نفوسهم، ولذلك فقد أطلقوه بالأجنبية بتعبير (Free) وبتعبير(Liberty) وبنوا على هذه اللفظين معني متعددة: الحريات النقابية (Freedom of association) الحرية الجنسية (Free Love) حرية الإرادة (Free Will) حرية _(Freedom) أحرار الفكر (Free thinkers) الإباحية (Libertinism) المذهب الفردي(Liberalism) الحرية المدنية (Libertie civil) حرية(Liberty) الحرية الاقتصادية (Laissez fair).
هذه بعض ما أطلقت عليه هذه الكلمة سواء في العربية أم في الأجنبية، وكلها تدور حول معنى واحد، هو القدرة الذاتية على الاختيار، دون أدنى جبر أو إكراه، من أية جهة كانت، ويعني ذلك تحرر الفرد أي انفلاته من كل قيد أو انضباط والتصرف بحسب رغبته وهواه إلا أن استحالة تطبيق هذا الأمر على الواقع الانساني جعل الفكرة خيالية لا يمكن تصورها إلا بمجتمع الغاب، ولما كان الإنسان لا يحيا ولا يطيق أن يحيا بمجتمع الغاب، فإن تطبيق هذه الفكرة عليه خيال،ولذلك فقد وجد أصحاب هذا المذهب أنفسهم مضطرين أن يقيدو هذه الحرية بقيد يحافظ على الأقل على بقاء المجتمع البشري كان هذا القيد هو، عدم الاعتداء أو الإضرار بحرية الآخرين، ثم يتبع هذاالقيد تبني حملة هذا المذهب فكرة إقامة الدولة لحماية الحريات،وقد تبع إقامة الدولة، وجوب التزام ابتاعها بما تسن من نظم أو قوانين، بالرغم من أن أي قيد هو نقيض الحرية وأن أي إجبار للانسان أو إكراه له بالتزام سلوك معين، او السير على نظام معين إنما هو نقيض الحرية ومناف لها، ولو شئنا الالتزام بحرفية معناها، وما تدل عليه حقيقة لوجب إلغاء هذه الكلمة نهائيا وأنها فعلا كلمة خيالية لا وجود لها، إذ ما من إنسان إلا ويخضع لجهة أخرى خارجة عن ذاته ومهيمنة عليه، شاء أم أبى.وبالرجوع إلى ما أطلق العرب على معنى هذه الكلمة وما اشتق منها من معان وألفاظ أي كلمة حرية، لمعرفة مطابقتها إلى المعاني الأجنبية التي وضعت لها نكاد نجزم أن المترجم قد وفق بأخذ المعنى المقابل له، ولا نكاد نجد معنى من تلك المعاني ليس له بالمقابل ما يطابقه.فكلمة حر تعني السيد الذي يملك ممارسة إرادته دون جبر أو إكراه، وهو نقيض معنى العبودية (Slave) فالحر هو الذي يمارس إرادته دون جبر أو إكراه من أية جهة على نقيض العبد الذي يمارس جبر أو إكراه من أية جهة على نقيض العبد الذي يمارس إرادته حسب رغبة سيده بالقدر الذي يريد سيده لا بحسب رغبته وهواه، وبمثل هذا المعنى نسبيا نطلق كلمات أحرار، تحرير، تحرر وكلها تدور حول معنى واحد وهو رفع هيمنة الآخرين عنهم سواء أكانت هيمنة سياسية أو عسكرية أو فكرية أو ثقافية. وقيام الحركات التحررية في العالم هو وجود حركات تسعى لتحرير شعوبها من هيمنة مفروضة عليها.إلا أن معنى الحرية المبحوث عنه الآن، فإنه وإن كان لا يخرج كثيرا عن هذه المعاني العربية بل يشترك معه في المعنى الأصلي وهو رفه الهيمنة، ولكنه له معنى خاص به وله مدلول مستهدف من قبل الداعين له وهو تمكين الفرد من مباشرة أعماله واشباع رغباته وتسيير سلوكه دون قيد أو شرط، دون ضغط أو إكراه، وهذا ما يعبر عنه عادة بتمكين الفرد من حرياته العامة، أو حرياته الأربع وهي حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية التملك، وحرية التصرف والسلوك الشخصي فهذا هو بيت القصيد وهذا هو البحث الذي نريد أن نعطي فيه الرأي بعد محاكمته.عدم مطابقة الحرية للواقعوكما بدأنا بمحاكمة الديمقراطية فقلنا أن صدق الأفكار وصحتها يتطلب وجود مقياس دقيق تقاس عليه وقواعد ومسلّمات تستعمل في إظهار الخطأ من الصواب فاحتكمنا فيها إلى العقل باعتباره مناطق التكليف، وباعتباره الجوهرة التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، والنعمة الكبرى التي جعلته سيد الكون، فسخر له الله سبحانه وتعالى كل شيء، كما احتكمنا أيضا إلى قاعدة ثابتة يقضي بها كل ذي لب، وهي أن الفكر الصحيح، والرأي الصائب هو الفكر أو الرأي أو الخبر الذي ينطبق على واقعه، ولذلك كانت قاعدة مطابقة الأمر للواقع قاعدة صحيحة، وعليها نستطيع تمييز الخطأ من الصواب، وانطلاقا من هذه القاعدة نقول:بعد أن تبينت لنا كافة المعاني التي تشير إليها كلمة الحرية، وفهمنا ما تدل عليه جملة وتفصيلا فكان الجذر الذي انبثت منه جميع هذه المعاني هو الانفلات من كل قيد فالسؤال الذي يرد الآن هو هل لهذا المعنى وجود في الواقع الآن؟ وهل يمكن أن يكون له واقع مستقبلا، وما هي النتيجة التي يمكن أن تتربت عليه إن سلمنا جدلا بإمكانية وجود مجتمع أو إنسان يعيش على أساس هذه الفكرة؟.أما الإجابة على السؤال الأول وهو هل لهذا المعنى وجود في العالم الآن فإن الإجابة بالنفي مؤكدة، وذلك أنه ليس هناك مجتمع بشري في الوجود يعيش كل إنسان فيه على هواه وتبعا لرغبته، واتباع حاجته، سواء في المتجمعات المتحضرة، أم في المجتمعات البدائية، البدوية منها والحضرية، بل اننا نجد أن الإنسان كلما ارتقى فكريا كلما زاد ارتباطا وانضباطا بالقوانين والنظم، وحتى الأعراف، ولهذا فإن الجواب بالنفي على السؤال الأول كأنه هو الجواب الحق –فلا وجود لمجتمع بشري يعيش على فكرة الحرية، والتي تعني الانفلات من كل قيد. أما لسؤال الثاني وهو إمكانية أن يأتي يوم فيكون على أساسه فالجواب على ذلك بالنفي أيضا وبكل تأكيد، وذلك لمناقضته لمعنى المجتمع فالمجتمع هو مجموعة قيود-قواعد وأحكام-التزم بها مجموعة من الناس وقاموا على تنفيذها فمن يعش بينهم فهو مجر على القبول بالسير حسب هذه القواعد والنظم، وإلا قتلوه أو رحل عنهم. فطبيعة التحلل من القيود هي على النقيض من الاجتماع والتقيد.وأما السؤال الثالث: وهو التساؤل عن النتيجة المترتبة على تطبيق هذه الفكرة فيما لو سلمنا جدلا بإمكانية حدوثها ضرب من الجنون أو شطحه بعيدة من الخيال، فكيف تجمع القيد والانفلات في وقت واحد؟ والعقل البشري بق